سافر حاتم كناعنة إلى أميركا سنة 1960 لدراسة الطب، وعاد إلى الوطن سنة 1970 بعد أن حصل على شهادته وتدرّب على المهنة، رافضًا العروض المغرية في المهجر ومفضِّلا خدمة أبناء شعبه، خاصّة وأن قريته الجليلية، عرّابة البطوف، لم تحظَ حينها ولو بطبيب واحد، وهي التي باتت الآن تتبوأ قائمة القرى والمدن العربية في هذا المجال.
انفتاح د. حاتم كناعنة في جيل مبكر على المدينة والقرية والاستقلالية التي عرفتها حياته اليومية من خلال دراسته الثانوية في الناصرة ومن ثم من خلال العيش في أميركا وزواجه من مواطنة من جزر هواي، أغنت نظرته إلى الحياة وأحوال البشر عامة وإلى أوجاع مرضاه وأبناء مجتمعه، وهو من ضمنهم، بشكل خاص. ولهذا، لم تمرّ التجارب والحكايات على د. حاتم كناعنة مرور الكرام بل أثّرت عليه وجعلته يدرك أن الأوجاع التي اشتكى منها مرضاه أخفت أوجاعًا أعمق وأوسع، تتمدد لتخرج من جسد المريض لتصيب المجتمع كلّه، أو العكس، وتجعل الواحد منهما صدىً للآخر. لهذا، اضمحل البعد الشخصي للألم، وكذلك للفرح، للفشل، وكذلك للنجاح، وقبل وبعد ذلك كله، أظهر أن مأساة الفرد هي نتيجة لمأساة شعب، سواء كانت سياسية أم اجتماعية، خارجية أم داخلية.
رغم أن ما كتبه د. حاتم في “الوجع الدفين” هو حكايات، إلا أنها لم تفك الخيوط التي تربطها مع الواقع وتتخذ صورًا نموذجية لمجتمع مثالي، فالطبيب لا يعالج المرض بالتنكر له، ولم تشطح بعيدًا إلى عالم متخيّل، بل حُبكت معًا جيدًا وخُلطت بحيث ضاعت حدود الواقع والخيال وحدود الماضي البعيد والحاضر، كما يحدث في الحياة.
يكتسب هذا الكتاب الذي صدر أساسًا باللغة الإنجليزية (2015) أهميته من عمق وصدق وجمالية الصور التي يرسمها الكاتب للحياة اليومية الفلسطينية عبر سرد قصص شخصيات عاش بعضها في قرى فلسطينية كانت حتى الماضي القريب تعجّ بالحياة وباتت مجرد أسماء وذكرى (مثل رمانة والدامون وصفورية)، وتدخلنا إلى أزقة القرى وباحات البيوت ومخازن المؤن لترسم لوحات حيّة بأصوات وروائح ومذاق وألوان لا يعرفها إلا فلاح أصيل وطبيب ماهر، عرف كيف يداوي الأرض ومن عليها.